فوزية رهيجة

تخيل مكانا” لامكان فيه”. أكثر الأماكن هدوءا. حيث يوجد الموت المجهول، حيث تلقى الجثث في العدم. هذا المكان هو مقبرة المجهول وتقع خارج اسطنبول، هو مكان دفء الأفراد الغير مرغوب بهم في المجتمع التركي. البغايا والمتحولين جنسيا
وغيرهم من ” المنحرفين” ، وحديثي الولادة، وعدد لا يحصى من اللاجئين الذين ماتوا في الخارج. الناس المدفونون هنا ليس لديهم هوية سوى شواهد القبور الحاضرة في الذاكرة الى الأبد، والمغلفة بأسمائهم وتورايخ ميلادهم ووفاتهم، يتم تحجيم الناس الى أرقام، لا أسماء ولا هوية ولا حتى ذاكرة، غابة من الأرقام فقط
أحداث رواية أليف شفق، 10 دقائق و 38 ثانية في هذا العالم الغريب (شفق، 2019). خرجت من هذا المكان الدنيوي لتذكر بهؤلاء (غير)الناس، هؤلاء البشر الذين اختزلوا الى أعداد، الذين تم رفضهم خلال حياتهم كلها، حتى في الموت
تحكي شفق قصة المجهول، تسترد هوياتهم المفقودة وتعيدهم الى الحياة. أنها تظهر أن التمييز وعدم المساواة والاستبعاد الاجتماعي لا ينتهون بالموت، فهم يتبعون بعض الأفراد كذلك في الموت وما بعده في طورهذه الراوية، تستكشف شفق من خلال الوسائل الأدبية بعضا من النتائج الأساسية في علم اجتماع الموت. وقد أشار علماء الاجتماع مثل مايكل سي كيرل (1989) الئ وجود ” التقسيم الطبقي الاجتماعي للموت”، مما يدل على أن الناس ليسو متساوين في مواجهة الموت، بعض الأفراد يعيشون حياة أطول و أفضل ويتمكنون من تجنب الموت حتى يصبح لا مفر منه: آخرون، في المقابل، هم الناس الذين يعيشون في فقر حيث أنهم أكثر عرضة للموت وبالتالي يعيشون حياة قصيرة وبائسة. أظهر علماء اجتماع آخرون أن عدم المساواة بين الناس من قبل الموت يتبعها عدم المساواة بعد الموت وذلك في كيفية تذكرهم، (روسو2020)
يتم إحياء ذكرى الأغنياء والمشاهير وبالتالي يتم الاحتفاظ بهم في ذاكرة مؤقتة من خلال وسائل ثقافية ومادية مختلفة تتنوع بين النّعي إلى النصب التذكارية، و يكون الفقراء أكثر عرضة للنسيان. بناءً على الرؤى المأخوذة من علم اجتماع الموت. في هذه المقالة أحلّل رواية ألف شفق، 10 دقيقة 38 ثانية في هذه العالم الغريب، كاستكشاف أدبي للخداع البشري مع التركيز بشكل خاص على الجوانب المظلمة من المجتمع، حيث أنَّ الموضوعات مثل الفقر والتمييز وعدم المساواة والإقصاء والهجرة أهمية قصوى. تتدفق الرواية إلى الوراء، حيث تبدأ بالنهاية ثم تعود إلى الوراء في الوقت المناسب

تتكون الرواية من تيكيلا ليلى، الشخصية الرئيسية في الكتاب. تُصوّر الأسطر الأولى من الرواية ليلى ترقد بين القمامة في ضواحي اسطنبول، تشعر أن قلبها قد توقف للتو وأن تنفسها قد توقف بشكل مفاجئ وبغض النظر عن الطريقة التي نظرت بها إلى وضعها، لم يكن هناك من ينكر أنها كانت ” ميتة.” هذا التطور الاستثنائي الذي ينطلق من القصة يجذب انتباه القراء ويثير خيالهم و فضولهم لإنهاء الرواية
خلال 10 دقائق و 38 ثانية بينما كانت ليلى تتألم في تلك القمامة، تحمل شفق القارئ من خلال حياة بطلتها منذ زمن طفولتها المجروحة، عندما كانت ليلى طفلة ترعرعت في قرية تركية صغيرة. عاشت ونجت من طفولة صادمة، حيث تعرضت ليلى للتحرش الجنسي مرارًا وتكرارًا من قبل عمها، وكان عليها تحمّل هذه الانتهاكات بصمت. وبهذا الخصوص فإنها مشكلة اجتماعية، حيث أُجري بحث حديث في تركيا على عينة من 1002 حالة من الأطفال الذين وقعوا ضحايا للاعتداء الجنسي ووجدوا أن الفتيات يمثلن أكثرمن 80 في المائة من هؤلاء الأطفال. علاوة على ذلك ، 62 في المائة من الأطفال تعرضوا للتحرش الجسدي. تتمثل الإساءة بأشكال عديدة في علم الأمراض النفسي والذي يكشف على المدى الطويل عواقب التحرش الجنسي. تمامًا كما في رواية شفق. يزداد توتر علم الأمراض النفسي عندما يتكون الاعتداء الجنسي والعنف الجسدي وسفاح القربى (أيدين وآخرون ، 2015)
تتلاءم قضية ليلى تمامًا مع الملف التعريفي لطفل ضحية الاعتداء الجنسي كما هي موصوفة في الأدبيات الأكاديمية. وقد تضخمت معاناتها الصامتة بسبب حقيقة أن والديها لم يصدقوها عندما أخبرتهم عن هذه الانتهاكات. في هذا الجانب، درس بحث آخر ردود أفعال الوالدين تجاه الكشف عن التحرش حيث اكتُشِف أن الأمهات أكثر ميلا لتصديق في هذا الجانب ، لأنهم يؤمنون بأولادهم أكثرمن آبائهم ومع ذلك، انتهى الباحثون إلى أن على الرغم من أن غالبية الأمهات داعمات ، إلا أن هناك عددًا كبيرًا ليس كذلك. حتى الأمهات اللواتي يقدمن الدعم والحماية بشكل عام غالباً ما يظهرن ردوداً متناقضة “(إليوت وكارنز، 2001)” في المجتمعات التقليدية

مثل المجتمع التركي، تضغط الثقافة الجماعية على الأسرة لإخفاء الاعتداء الجنسي، خاصة إذا ارتُكِب من قبل أحد أعضاء الأسرة الممتدة. في “ثقافات العار” هذه ( بنديكت، 1946) ، تكون الأسرة ذات قيمة عالية وأي فضيحة تشمل الأسرة يعتقد أنها تلطخ سمعتها وشرفها
بعد أن ظلت ليلى حاملاً بطفل عمها تمكن والدها هارون، من إدارة الموقف المخزي بإجبارها على الزواج بأحد أبناء عمومتها. وبسبب حملها تم إخراجها من المدرسة أيضاً. تهرب ليلى من سجن الزواج الذي فرضته عليها الأسرة بمساعدة صديق
لينتهي بها الأمر تعمل في الدعارة في اسطنبول. هناك العديد من المقالات البحثية في الأكاديميات والأدبيات التي تصور زواج الأطفال، خاصة بعد الاعتداء ، كشكل من أشكال العنف ضد المرأة تنتشرهذه الظاهرة في تركيا وغيرها من المجتمعات الإسلامية على نطاق واسع (كرمان وبيتروس ، 2020 ؛ يوكسيل وكوتشورك ، 2021)
إن الإطار القانوني في البلدان المسلمة تأسس على المبادئ القانونية المستوحاة من الشريعة الإسلامية و المستمدة من القرآن. بحسب هؤلاء قد تختار أسرة المرأة التي تعرضت للاغتصاب الزواج بالمعتدي، من أجل “حفظ” شرف الأنثى والأسرة، و إذا تمّ الزواج ، فإن المعتدي الذي أصبح زوج الضحية يتبرّأ من فعلته
تبدأ ليلى في تكوين صداقات بين العملاء في عملها. لقاء مع جميلة، عاهرة أخرى، كانت أولى الذكريات التي ومضت في عقل ليلى بينما كان جسدها يتألم حتى الموت في القمامة. التقت جميلة خلال ليلة أمضياها معاً في السجن. كان أصدقاؤها المقربون الآخرون نوستالجيا نالان، زينب 122 ، وهوليوود حميرة وهو متحول جنسي وقح ، قزم سني، هو مغني ملهى ليلي ذو وزن زائد. على الرغم من اختلافاتهم في الشخصية، إلا أنهم يشتركون جميعًا في مصير محزن المنبوذين و المحظورين والوصم في مجتمعها الخاص من المستبعدين اجتماعيا، رأت ليلى الجمال والصلاح الأخلاقي
في يوم من الأيام ، يدخل شخص إلى بيت الدعارة عن طريق الخطأ. كان اسمه الدكتور علي أ. ناشط اشتراكي منخرط في الحركة العمالية. وقع في حب ليلى بدون ممارسة الجنس معها. تزوج الاثنان، لكن بعد ذلك بوقت قصير، قُتل الدكتورعلي أثناء مشاركته في مسيرة احتجاجية في اسطنبول. أصبحت ليلى الآن أرملة، نفسها تلك السابقة واستأنفت حياتها كعاهرة. أثناء العمل في شوارع اسطنبول ، قُتلت ليلى على يد “حراس” أخلاقيين، أي من الذكورحين أُقيمت حملة لقتل جميع الإناث العاملات في الدعارة في المدينة

جرد الأولاد الذين وجدوها جسدها من رقبتها وهربوا. و في النهاية قامت السلطات بنقل الجثة إلى المشرحة. ولم تطالب العائلة بجثتها ورفضت السلطات توفيرها لأصدقائها من أجل إعداد دفن لائق في مقبرة عادية. وبدلاً من ذلك ، تم نقل جثة ليلى إلى مقبرة المجهول وإلقائها هناك، في المقبرة الجماعية بين الجثث الغير المعترف بها. في صباح اليوم التالي، تم العثور على جثتها في القمامة
بينما كانوا حزينين على صديقتهم المتوفاة، جاءت نوستالجيا نالان والأربعة الآخرون بفكرة حفر قبر ليلى ودفن الجثة في مقبرة عادية. بعد حلول الظلام ذهبوا إلى مقبرة المجهول، انتشلوا الجثة ووضعوها في السيارة. كانت وجهتهم: مضيق البوسفور الجسر الذي خططوا منه لإطلاق الجثة في البحر مع الشرطة، وصلوا أخيراً فوق الجسر وألقوا جسدها من على الحديد
تقترب الدقائق العشر و 38 ثانية من نهايتها حيث يتم احتضان جسدها عن طريق الماء وتجد ليلى سلامها تحت السّطح، في عمق المحيط. رواية ألف شفق عبارة عن استكشاف أدبي رائع للجانب المظلم من اسطنبول، حيث يتم أخذ المدينة التركية على أنّها استعارة لحديث العالم الاجتماعي. تتعمق الوسائل الأدبية في عالم المظلومين، عالم المستبعدين، حياة المنبوذين الاجتماعيين. ومن خلال ذلك تم استكشاف هذا العالم القاسي والغير إنساني، فهي تضفي طابعاً إنسانياً على الضحايا وتحتفل بإنسانيتهم. إذا تعمقنا في الرواية ، نكتشف مدى التعفن من داخل المجتمعات ، كيف أن وصمة العار تجرد الناس من إنسانيتهم وتدمر فرصهم لحياة كريمة

تجسد قصة ليلى السير الذاتية لآلاف النساء اللائي أصبحن ضحايا المجتمعات الأبوية ويكافحون من أجل البقاء في بيئة معادية من خلال أي وسيلة ضرورية ، بما في ذلك العمل بالجنس و الدعارة والانحراف. ضمن هذه العوالم، نجد عوالم الصداقة الحقيقية والمبادئ الأخلاقية، والسلوك الإيثاري. يتم تقديم كل ذلك في قصة ليلى وصديقاتها
حيث تُقرأ الرواية على أنها احتفال بالحياة وإدانة للنفاق الأخلاقي الذي يميز المجتمع السائد.بعد سلسلة من الروائع مثل: لقيطة اسطنبول ( شفق ،2007) وقواعد العشق الأربعون (شفق ، 2010),بنات حواء الثلاث (شفق ، 2016 ) ورواية ألف شفق الحادية عشرة بعنوان 10 دقائق و 38 ثانية في هذا العالم الغريب تمت ترجمة الرواية بالفعل بعدة لغات (بما في ذلك التركية والعربية) تحتل مكانتها كواحدة من أكثر الكتاب المعاصرين إثارة وتلقت تقييماً نقدياً في مراجع أدبية متعددة. كما تم اختيارها في القائمة المختصرة ل جائزة Booker المرموقة لعام 2019 والإشادة بـ “جلب العالم السفلي في اسطنبول الي الحياة. بغض النظرعن هذه الجوائز الرسمية ، تظل رواية شفق واحدة من أقوى الروايات التي تناشد الإنسانية ضد العنف الجنسي والقمع الجنسي، وعدم المساواة الاجتماعية
ترجمة: نغم عجيب